السعودية لن تدفع لترامب 600 مليار دولار
اخبار سعر صرف الدولار في لبنان
ليس من السهل التنبّؤ بما سيفعله الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لكن بات بالإمكان فهم نمط تفكيره في حروبه الاقتصادية والتجارية. وقد أبدت السعودية اقتداراً في التعامل مع هذا النمط في الأيّام الأولى للرجل في البيت الأبيض.
يضع الرجل في رأس قائمة أولويّاته معالجة العجز التجاري الهائل، بوصفه المرض الاقتصادي الأكبر الذي يهدّد الهيمنة الاقتصادية الأميركية. فقد تجاوز هذا العجز 770 مليار دولار في 2023، وإذا ما استثنينا الخدمات فإنّه يصل إلى 1.06 تريليون دولار. والاختلال الأكبر يكمن في التبادل التجاري مع المكسيك وكندا والصين ودول الاتّحاد الأوروبي، التي تمثّل معاً نحو ثلثَي التجارة الخارجية للولايات المتحدة.
أمّا السعوديّة فليست لديه مشكلة في الميزان التجاري معها، فحجم التبادل التجاري (السلعيّ) الأميركي معها لم يزِد على 24 مليار دولار حتى نهاية تشرين الثاني من العام الماضي، وهو متوازن إلى حدّ كبير. ويقارن هذا الرقم بتبادل يصل إلى 100 مليار دولار سنوياً بين السعودية والصين مثلاً.
في المجمل، لا تشكّل الولايات المتحدة نسبة كبيرة من صادرات النفط السعودية، ما خلا الإمدادات التي توجّه إلى منشآت تكرير تملكها السعودية في أميركا، وتحديداً مصفاة "بورت آرثر" التي تملكها "أرامكو" في ولاية تكساس، وهي أكبر مصفاة في أميركا. ولذلك الثقل في العلاقات الاقتصادية بين السعودية والولايات المتحدة يتركّز في مجال الاستثمار والخدمات، أكثر منه في التجارة.
غبن من الحلفاء لا الخصوم
ينطلق ترامب من فكرة مركزية مفادها أنّ بلاده مغبونة في العلاقة مع حلفائها، قبل خصومها. فهو يصوّر التحالف العسكري على أنّه "حماية" للآخرين، ويتغاضى عن أنّه امتداد لنفوذ بلاده ومصالحها، ويرى في عجز الميزان التجاري "دعماً" (subsidy) للآخرين، وتلك مغالطة لا يؤيّدها أحد من الاقتصاديين.
تختلف اللعبة كثيراً حين يتعلّق الأمر بالصين. فبكّين تستمع جيّداً إلى التصريحات الناريّة في واشنطن وتقتصد في ردود الفعل بانتظار أن يبدأ التفاوض
لذلك يحترف ترامب إطلاق النار في الهواء لينتزع التنازلات من الأصدقاء والخصوم على حدٍّ سواء. كان إعلانه يوم الجمعة الماضي عن رسوم جمركية على الواردات من كندا والمكسيك بنسبة 25%، وعلى الصين بنسبة 10%، شيئاً من هذا القبيل. وفيما كانت أسواق الأسهم تهوي بشدّة من أقصى الشرق إلى وول ستريت، أعلن صباح الإثنين تجميد الرسوم على المكسيك لثلاثين يوماً، وأتبعه مساء بتجميد مماثل للرسوم على كندا قبل دخولها حيّز التنفيذ. وبرّر قرارَي التجميد بإعلان البلدين خططاً أمنيّة لضبط الحدود، معظمها معلن سابقاً ولا يحمل جديداً. غير أنّ جوهر الأمر أنّه وضع سلاح الرسوم على الطاولة وجلس للتفاوض.
مع الصّين… اللّعبة مختلفة
تختلف اللعبة كثيراً حين يتعلّق الأمر بالصين. فبكّين تستمع جيّداً إلى التصريحات الناريّة في واشنطن وتقتصد في ردود الفعل بانتظار أن يبدأ التفاوض. فالمسؤولون هناك يعرفون ما لديهم من أوراق، ويميّزون بين إطلاق النار في الهواء وبين أن تبدأ الحرب الاقتصادية فعلاً.
كان ترامب قد توعّد خلال حملته الانتخابية بفرض رسوم على الواردات من الصين بنسبة 60%، ثمّ أعلنها بنسبة 10% فقط، وسرّب للإعلام أنّ هناك جولة أخرى من الرسوم ستُعلن مطلع نيسان. ثمّ أعلن الإثنين عقد اجتماعات مع بكين ستؤدّي إمّا إلى اتّفاق وإمّا إلى جولة أكبر من الرسوم.
هو في علاقته بالصين على وجه الخصوص، مقيّد بشبكة معقّدة من المصالح الاقتصادية. ولا شكّ أنّ دائرته الضيّقة من أصحاب المليارات لا تريد صداماً مع بكين، وأوّلهم إيلون ماسك الذي تمتلك شركته "تسلا" مصنعاً ضخماً في شنغهاي، وهو دائم التردّد إلى الصين. وقد هوى سهم شركته بشكل كبير إثر إعلان الرسوم الجمركية.
أمّا وزير الخزانة سكوت بيسنت، فهو أيضاً ملياردير في الصناعة الماليّة، وله تعاملات كبرى في الصين، وقد صرّح مراراً قبل تولّيه المنصب أنّ التهديدات بفرض الرسوم الجمركية لا تعبّر عن أكثر من "سياسة الحدّ الأقصى" لفرض الشروط عبر التفاوض.
يعكس رقم الـ 600 مليار دولار الذي أعلنه وليّ العهد السعودي في اتّصاله مع ترامب، مجمل ما يُتوقّع أن يخصّصه القطاعان العامّ والخاصّ
يبقى أنّ الجبهة الكبرى في الحرب التجارية هي مع أوروبا، وهي لم تبدأ بعد، وإن تكن القارّة العجوز تحشد لها بعدما هدّدها ترامب بأنّ دورها في الرسوم آتٍ حتماً.
ماذا عن السّعوديّة؟
استحوذ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على عناوين الأخبار في وسائل الإعلام الأميركية، عندما أعلن في اتّصال مع ترامب رغبة المملكة في توسيع استثماراتها وعلاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة في السنوات الأربع المقبلة بمبلغ 600 مليار دولار، "مرشّحة للارتفاع في حال أتيحت فرص إضافية".
قدّم الإعلان فرصة لترامب للاحتفاء به إنجازاً شخصياً له في الداخل الأميركي، ومهّد الطريق أمام صفحة من الإيجابية في العلاقات بين الرياض والإدارة الجديدة. لكنّ ضخامة الرقم تستدعي البحث في طبيعته وما يعنيه.
كانت العلاقة التي أسّسها الأمير محمد بن سلمان مع ترامب في ولايته الأولى قصّة تُحفظ في تاريخ الدبلوماسية. فالرئيس الأميركي كان آتياً من خلفية لا تكنّ للمملكة ودّاً. وكان موقفه مشابهاً لموقفه تجاه كلّ حلفائه في أوروبا وأميركا الشمالية وشرق آسيا، الذي يعتبر أنّ الولايات المتحدة مغبونة.
كانت رحلة محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة في آذار 2017 مفصليّة، (كان حينها وليّ وليّ العهد). فقد قامت الرياض حينها بأكبر حملة علاقات عامّة لشرح مقدار تشابك المصالح لإدارة ترامب ولمجتمع الأعمال الأميركي. وكانت ذروة تلك الحملة الرقم الشهير الذي أعلنه الأمير في لقائه مع ترامب حينها، ويتعلّق باستثمارات وتبادل تجاري بقيمة 450 مليار دولار. فالرقم كان في حقيقة الأمر جمعاً لكلّ العقود والاستثمارات المتوقّعة بالفعل على مدى سنوات مقبلة، بكلّ ما فيها من استثمارات مدرّة للعوائد من القطاعين العامّ والخاصّ السعوديَّين، ومشتريات دفاعية، واستيراد للقطاع الخاصّ، وغير ذلك. وكان الغرض منه إيضاح مدى ضخامة المصالح الاقتصادية القائمة بالفعل بين البلدين.
في المجال الدفاعي مثلاً، تضع السعودية هدفاً محدّداً هو الوصول بنسبة التصنيع المحلّي إلى 50% بحلول عام 2030
في واقع الحال، لم يكتمل تنفيذ هذا الرقم حتّى اليوم، لأنّ بعضاً منه يتعلّق بعقود تمتدّ على سنوات طويلة، والبعض الآخر بصفقات لم تكتمل لسبب أو لآخر. منها مثلاً مشاريع صفقات في الصناعات الدفاعية كُرتُها في ملعب الإدارة الأميركية. ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ الجزء الأكبر من الرقم عبارة عن استثمارات سعودية في الولايات المتحدة. ومعروف أنّ هذه الأخيرة مثّلت أفضل سوق للاستثمار في السنوات الماضية.
فمؤشّر S&P 500 ارتفع في آخر عشر سنوات في ثمانٍ منها، وراوحت مكاسبه بين 23 و24 في آخر عامين. وما من صندوق سيادي في العالم إلّا ويخصّص الجزء الأكبر من أصوله المدارة في السوق الأميركية.
الأسهم الأميركيّة في المحفظة السّعوديّة
بحسب الأرقام المنشورة، يحتفظ صندوق الاستثمارات العامّة السعودي بمحفظة استثمارية ضخمة في الأسهم الأميركية تراوح قيمتها بين 20 و40 مليار دولار، بحسب القرارات الاستثمارية وظروف السوق. وقد حقّقت هذه المحفظة عوائد كبيرة في السنوات الماضية، بعدما انتهز الصندوق فترة انخفاض الأسواق خلال جائحة كورونا لبناء مراكز استثمارية بأسعار منخفضة.
إلى ذلك يحتفظ البنك المركزي السعودي تاريخياً بمحفظة كبيرة من سندات الخزينة الأميركية تقدّر بنحو 140 مليار دولار، وهي جزء من احتياطاته الخارجية. لكنّه رقم يقلّ كثيراً عن محفظة الصين المماثلة، التي تقارب 800 مليار دولار، أو محفظة اليابان التي تصل إلى 1.1 تريليون دولار. والجدير بالذكر أنّ الاستثمارات السعودية في السوق الأميركية، سواء الحكومية أو الخاصّة، زادت في عهد جو بايدن ولم تتراجع. فالأمر مرهون أوّلاً وآخِراً بالنظرة إلى الأسواق والعوائد المتوقّعة.
لا تشكّل الولايات المتحدة نسبة كبيرة من صادرات النفط السعودية، ما خلا الإمدادات التي توجّه إلى منشآت تكرير تملكها السعودية في أميركا
ارتباط الاستثمارات بأهداف استراتيجيّة
لكن ما تغيّر في الاستثمارات السعودية منذ إطلاق "رؤية 2030" قبل ثماني سنوات، أنّ الاستثمارات باتت مرتبطة بأهداف استراتيجية لتوطين الصناعات وامتلاك النفوذ في سلاسل الإمداد العالمية. فمثلاً، تعتبر شركة "لوسِد" لصناعة السيارات الكهربائية ثاني أكبر استثمار لصندوق الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة. غير أنّ هذا الاستثمار مرتبط باتفاق لإنشاء مصنع للشركة في السعودية، مع ما يحمله ذلك من نقل للتكنولوجيا، وتحفيز صناعات أخرى تغذّي سلاسل إمدادات صناعة السيارات، مثل صناعة الإطارات وبطّاريات السيارات الكهربائية وما تحتاج إليه من موادّ أوّلية.
يعكس رقم الـ 600 مليار دولار الذي أعلنه وليّ العهد السعودي في اتّصاله مع ترامب، مجمل ما يُتوقّع أن يخصّصه القطاعان العامّ والخاصّ في المملكة للمشتريات والاستثمارات في أميركا خلال السنوات الأربع المقبلة. وهو رقم واقعي بالنظر إلى ضخامة حجم الاقتصاد السعودي الذي يناهز 1.1 تريليون دولار. غير أنّ الأكيد أنّه لن يكون دفعة واحدة، ولن يكون من دون مقابل. بل إنّ جزءاً منه مشروط بالنفاذ إلى قطاعات استراتيجية متقدّمة، مثل الصناعات العسكرية، والرقائق الأكثر تطوّراً التي تقوم عليها صناعة الذكاء الاصطناعي، والطاقة النووية وصناعات الطاقة المتجدّدة.
في المجال الدفاعي مثلاً، تضع السعودية هدفاً محدّداً هو الوصول بنسبة التصنيع المحلّي إلى 50% بحلول عام 2030، بعدما رفعتها من نسبة لا تذكر إلى 20% في السنوات الثماني الماضية. ومن المرجّح أن تطرح مشاريع شراكات طويلة الأجل مع شركات الصناعات الدفاعية الأميركية الكبرى مثل "لوكهيد مارتن" و"رايثون". وهناك أيضاً ستكون الكرة في ملعب الأميركيين.
إقرأ أيضاً: ترامب – نتنياهو: دبلوماسيّة ليّ الأذرع
لا يكفي كلّ ذلك ليكون التعامل مع إدارة ترامب رحلة سهلة. وهي ليست كذلك لأيّ من الشركاء الرئيسيين للولايات المتحدة. لكنّ الرياض امتلكت خبرة في تنظيم أوراق القوّة، ولا شكّ أنّ في جانبها العديد من كبار وول ستريت ممّن يحتشدون في "مبادرة مستقبل الاستثمار" في الرياض كلّ عام، وكلّهم طامعون بحصّة من طفرة الأعمال والاستثمار في المملكة.
لمتابعة الكاتب على X:
@OAlladan