14.2 مليار دولار عجز الميزان التجاري في عام 2024: المزيد من تشوّه الاقتصاد والمجتمع
اخبار سعر صرف الدولار في لبنان
ماذا يعني أن يكون لدينا عجز في ميزان التجارة الخارجية بقيمة 14.2 مليار دولار؟ هذا العجز يساوي 65% من الناتج المحلي الإجمالي، ولا تغطي تحويلات المغتربين أكثر من 43% منه.
أما السيولة التي يملكها مصرف لبنان بالعملة الأجنبية بقيمة 10.5 مليارات دولار، فهي لا تغطّي أكثر من 7.5 أشهر من الاستيراد. ما يعنيه هذا العجز، هو أن المقيمين والمغتربين، عليهم أن يضحّوا بأكثر من نصف نشاطهم الاقتصادي من أجل تغطية نمط العيش في لبنان. لكن الأكثر استفادة هم الأكثر قدرة على الاستهلاك، أي الفئة التي لا تتجاوز نسبتها 25% من المقيمين، أما الباقون فيعملون في خدمة النمط؟ بمعنى آخر، إن الاستهلاك المستورد في لبنان يأكل القسم الأكبر من الموارد المتاحة معبّراً عن فجوة هائلة في توزيع الثروة والدخل.
أصدرت الجمارك اللبنانية أرقام 2024 عن الاستيراد والتصدير. تبيّن أن لبنان صدّر في السنة الماضية بقيمة 2.7 مليار دولار واستورد بقيمة 16.9 مليار دولار. شكّلت المنتجات المعدنية، أي النفط ومشتقاته بشكل أساسي، النسبة الأكبر من بقيمة 4.4 مليارات دولار، تليها فاتورة الذهب والأحجار الكريمة والألماس بقيمة 2.57 مليار دولار، ثم منتجات الصناعات الكيماوية (أبرزها الأدوية) بقيمة إجمالية بلغت 1.4 مليار دولار، والآلات والأجهزة الكهربائية بقيمة 1.3 مليار دولار، ثم صناعة الأغذية بقيمة 1.2 مليار دولار، والمنتجات الحيوانية بقيمة 840 مليون دولار ومعدات النقل بقيمة 810 ملايين دولار. تركّز الاستيراد واضح في الفاتورة النفطية وفي تجارة الذهب والأدوية والأجهزة الكهربائية والسيارات، علماً أن حاجات الغذاء ليست بذات الكلفة، إذ لا تمثّل أكثر من 3 مليارات دولار من مجمل فاتورة الاستيراد.
انكماش الناتج وارتفاع حصّة العجز التجاري منه يقابله المزيد من الهجرة والبطالة
في المقابل، إن التصدير مركّز في أربعة أبواب رئيسية على رأسها صادرات الذهب والألماس والأحجار الكريمة بقيمة 572 مليون دولار، وصناعة الأغذية بقيمة 412 مليون دولار، والمعادن العادية بقيمة 405 ملايين دولار (غالبيتها خردة من الحديد والنحاس والألمنيوم...)، والصناعات الكيماوية (الأدوية من أبرزها) بقيمة 329 مليون دولار.
المقارنة بين الاثنين تظهر بوضوح أن الإنتاج في لبنان هو في أتعس حالاته، باستثناء الصناعات الغذائية التي تسجّل أكثر من 15% من مجمل التصدير، لا يمكن الاعتداد بالميزان التجاري الخاص باستيراد وتصدير الذهب والألماس، إذ يسجّل في هذا المجال عجز كبير في 2024 بقيمة تصل إلى ملياري دولار، ولا يمكن التعامل مع تصدير الخردة على أنها صناعة لبنانية بمقدار ما هي إعادة تدوير لكميات مستوردة سابقاً، إلا أنه يمكن اعتبار أن صناعة الأدوية في لبنان قد تكون مشروعاً قابلاً للحياة إذا توافرت له الفرص الاستثمارية والحضانة القانونية والأسواق الخارجية.
ما هو معروف عن اقتصاد لبنان في فترة ما بعد اتفاق الطائف، أنه كان يسجّل عجوزات متتالية في التجارة الخارجية. تراكمت هذه العجوزات لتبلغ بين عامَي 1997 و2024 نحو 325 مليار دولار.
ولم ينخفض العجز كثيراً في سنوات ما بعد الانهيار المصرفي والنقدي. باستثناء عامَي 2020 و2021، لم يسجّل تراجع في هذا العجز ناتج من الأزمة. في عام 2020 انخفض العجز إلى 7.8 مليارات دولار بسبب انخفاض الاستيراد إلى 11.3 مليار دولار ومواصلة التصدير بقيم عالية بلغت 3.5 مليارات دولار.
وفي السنة التالية ارتفع الاستيراد إلى 13.6 مليار دولار وسجّل التصدير شبه استقرار بقيمة 3.38 مليارات دولار، أي بعجز 10.2 مليارات دولار. وبعدها عادت وتيرة الاستيراد إلى إفراطه السابق مسجّلاً 19 مليار دولار في 2022 مقابل تصدير بقيمة 3.5 مليارات دولار. في هاتين السنتين ثمة الكثير للدرس، سواء ما يتعلق بالدعم الذي وفّره مصرف لبنان لاستيراد المشتقات النفطية والأدوية والقمح وسواهم، مبدداً أكثر من 20 مليار دولار من احتياطات بالعملة الأجنبية. وفي هذه المدة رفضت السلطة الحاكمة أن تُصدر أي قانون لفرض قيود على الاستيراد (كابيتال كونترول) وبالتالي على خروج العملة الأجنبية من لبنان، ما أبقى نزف الدولارات مستمرّاً لمدة طويلة حتى انخفضت سيولة مصرف لبنان بالعملة الأجنبية إلى ما يزيد قليلاً عن 7 مليارات دولار.
مقارنة العجز التجاري بين فترة ما قبل الانهيار، واليوم، يشي بأن السلطة لم تعمد إلى أي إجراء جدّي وحقيقي ما خصّ التعامل مع الأزمة وتداعياتها. بالعكس كان التعامل سلبياً جداً رغم أنه كان يتم الترويج لشعارات من نوع «الدعم». وتُرك الاقتصاد يسير بحسب توقعات السوق لتنخفض قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار بأكثر من 98% من قيمتها، ولم تتخذ أي إجراءات للاستفادة من الأزمة في اتجاه تحفيز الإنتاج المحلي. ولولا مبادرات فردية من بعض الصناعيين، لكان التصدير ولا سيما في مجال الصناعات الغذائية انخفض كثيراً بينما الواقع أن الصناعة المحلية بدأت تغطّي الإنتاج المحلي وتزيد صادراتها إلى الخارج.
العجز التجاري لهذه السنة مماثل للسنوات الماضية (مع استثناء المقارنة مع سنوات الأزمة). ففيما سجّل العجز التجاري في عام 2024 نحو 14.1 مليار دولار، بلغ في 2023 نحو 14.5 مليار دولار، وفي 2019 بلغ 15.5 مليار دولار، وفي 2015 نحو 15.6 مليار دولار. واللافت أن التركّز في الاستيراد هو نفسه في كل هذه السنوات.
أما ما اختلف فعلياً، فهو أن الاقتصاد لم يعد بالحجم الذي كان عليه في السابق، إذ كان هذا العجز يمثّل نحو 22.9% من الناتج المحلي الإجمالي في 2015، لكنه صار 55% في 2022 ويبلغ الآن في نهاية 2024 نحو 43% من الناتج المقدر بـ22 مليار دولار بعد تصحيحات البنك الدولي. إذاً، الاستهلاك المستورد متواصل بالوتيرة نفسها، والتصدير يتراجع، والاقتصاد ينكمش. هذا التشوّه لا يترجم فقط في الأرقام، بل في المجتمع بشكل واضح، ولا سيما في المزيد من الهجرة وتقلص فرص العمل والزيادة في البطالة والفقر. عمق الاختلالات البنيوية في الاقتصاد ستظهر مع الوقت.